fbpx

بين الصدفة والعمل والإيمان تُكتب الحياة من جديد

بين الصدفة والعمل والإيمان تُكتب الحياة من جديد

نظن في كثير من الأحيان بأن الحياة من الممكن أن تكون قد توقفت عند نقطة ما ولم يعد هناك أي أمل في التقدم نحو الأمام ونحاول أن نقنع أنفسنا بأن ما يمكن أن يغير الواقع الكئيب المزري الذي يمكن أن تتبدل فيه مسيرة حياتنا هو فقط الحلم. منا من يستسلم بسهولة للضغوط الهائلة وخاصة لو كانت هذه الضغوط مترافقة مع خسارات وانتكاسات لا يمكن لأي إنسان عادي أن يتحملها. تنتج الحرب الكثير من تلك المآسي فتحول الأطباء والمهندسين والأساتذة من حالهم العادي ومهنتهم إلى مهن أخرى مختلفة وربما تراهم يبيعون الملابس والخضار على بسطات متناثرة هنا وهناك. إذا كانت قساوة الحرب قادرة على فعل ذلك بطبيب أو مهندس أو مدرس فما بالك بالطفل وما بالك بالعائلات الكبيرة والتي يصل عدد أفرادها إلى 10 وربما 15 شخص وترى الفارق بين طفل وآخر لا يتجاوز السنة الواحدة.

 لقد قامت الحرب بعملها المريع هذا مع الطفل السوري زين، قضى خلالها ثماني سنوات من حياة التشرد في أحياء لبنان الفقيرة وجرب بدون رغبة كل أشكال القهر والجوع والحرمان عاملا مكافحا ضمن عائلة كبيرة ولكن كما يقولون ابتسمت له الحياة على حين غفلة من الألم والحرب ومرارة الضياع. صدفة تأتي ربما خير من ألف موعد وهذا ما حدث مع صديقنا زين حيث رأته المخرجة اللبنانية نادين لبكي ولاحظت فيه موهبة مميزة مدفونة في خفايا صورته التي أكلتها ثمان سنوات من قساوة لا يمكن وصفها. تلك الصورة التي كادت أن تسحقها عواصف التناقضات والحروب والضياع تتحول لتكون لاعبا رئيسيا في فلم (كفر ناحوم) للمخرجة لبكي. ببساطة بإمكاننا أن نقول هنا أننا أمام ضربة حظ (لاكي سترايك) ولكن أظن أن الموضوع يمكن النظر إليه من جوانب أخرى متعددة. فزين في كفر ناحوم يمكن أن يكون محمد في عيادة الطبيب ويمكن أن يكون عيسى في مشروع ناطحات السحاب وعلي في مدرسة النابغين ، ولكن زين كان محظوظ بأنه لوحظ من قبل المخرجة الكبيرة ومحمد وعيسى وعليا لم يلاحظهم أحد أو ينتظرون من يلاحظهم. ربما هذا الحظ العظيم لم يسعف الكثير من الحالات التي اضطرت أن تكون لقمة سائغة في فم الجهل أو التخلف أو حتى الظروف التي لم ترحم هذه الأجساد الضعيفة.

بالعودة لفيلم كفر ناحوم فهو ليس فيلما للفن فقط بل هو انعكاس لواقع يعيشه الكثير من أطفال الشوارع، يصوّر الفيلم المشاكل التي يتعرض لها الأطفال في الأحياء الفقيرة من عمالة وزواج مبكر وفقر وتشرد ويتكلم عن حياة زين ذو الإثني عشر عاماً الذي يحاول دون جدوى منع زواج أخته الصغرى ولو قدر لي أن اشرح لكم معنى ومدى عظمة المحاولة لبقيت أكتب وأحزن وأضيع لساعات قبل أن أجمع بعض السطور لكي أوصل لكم عن طريق الكلمات وبدون صور هذا النوع من الحرب ضد الجهل والتخلف الذي يمكن أن يكون بعضكم قد وقع فريسة له أو معظمكم بل من الأفضل أن أقول معظمنا.

تبدأ مشاهد الفيلم في قاعة المحكمة حيث يرفع زين دعوة قضائية على والديه (الذين أنجبا الكثير من الأطفال) ليقاضيهما بجريمة جلبه لتلك الغابة الكئيبة التي تسمى الحياة بشكلها الذي رآه وعاشه، وقد شكّل تقاطع حياته الحقيقية مع شخصيته في الفيلم دورا كبيرا في تأدية الشخصية بشكل مقنع وحقيقي ومميز.

تقول المخرجة نادين لبكي: تساءلت كيف يمكن أن أشعر لو كنت أنا هو؟ كيف يمكن أن أشعر لو كنت منسيّة وغير مرئيّة مثله؟ لو منحت هذا الطفل صوتا ماذا سيقول؟

وبعد أن عُرضَ هذا الفيلم في قاعات السينما لاقى أصداءً إيجابية رائعة، وحصَدَ العديد من الجوائز كما تمّ ترشيحه لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم بلغة أجنبية، حيث تلا مشاهدة هذا الفيلم تصفيق حار أستمر لمدة 13 دقيقة، وفاز في نهاية الدورة من المهرجان بجائزة لجنة التحكيم. وكل ما أتمناه أن يكون قد شجع من صفقوا أو من شاهدوا بالبحث عن زين أو عدة زينات في الزوايا المنسية التي خلفتها الحرب.

وقف بعدها زين مع المخرجة نادين على السجادة الحمراء في لوس أنجلوس نعم بكل هذه السهولة إنه الحظ أو شيء ما لا أعرفه أراد لهذا الطفل أن يكون مختلفا ولا تسحقه عجلات التناقضات السافلة التي يتكلم بيها الساسة وأرباب القرار.

انتقل زين بعدها مع عائلته إلى النروج بعد حصولهم على إعادة توطين والتحق بالمدرسة من أجل إكمال دراسته، في وداعه كتبت المخرجة اللبنانية نادين لبكي في رسالة لزين نشرتها على حسابها على انستغرام: “قبل أسابيع قليلة ودعنا زين وعائلته، الذين توجهوا إلى النرويج لبدء حياة جديدة. وقبل دقائق من توجهنا إلى المطار شاهدته وهو يلقي النظرة الأخيرة على الحي الذي عاش فيه حياته لثمانية أعوام، حياة كانت صعبة لأنه كان لاجئا.”

وتابعت لبكي بالقول: “في تلك اللحظة، كان زين طفلا أُبعد عن وطنه، وكل ما كان يعرفه في طفولته. لم يكن زين سوريا، أو لبنانيا، أو نرويجيا، أو مسيحيا، أو مسلما. كان طفلا يدفع ثمن حروبنا السخيفة من غير أن يدري سبب وقوعها.

زين بكى.. وقال إنه سيفتقد أصدقاءه والعصافير وبيروت وحياته فيها برغم الخوف والصعوبات، واختتمت نادين لبكي رسالتها بالقول: “أنا على ثقة أن مستقبلا فريدا سيكون بانتظارك.. لأنك تحمل كل القوة والحكمة”.

وفي عام 2020 عاد اسم زين للبريق من جديد حيث كشفت الممثلة الأمريكية سلمى حايك عن مشاركته في فيلم The Eternals الأبديون، والذي يعود لسلسلة أفلام عالم مارفل الخيالية.

ربما يكون زين طفل خدمته الصدفة، ولكن لولا وجود الموهبة الحقيقية لديه لما وصل إلى كل هذا، وما نستقيده من قصته أنه لا وجود للمستحيل ومهما كانت ظروف حياتنا صعبة لابد من فسحة أمل، وأن هناك فرص في الحياة علينا أن نستغلها فربما تكون قشة النجاة لنا. يجب علينا ألا نستهين بما نملك من قدرات وأن نؤمن رغم كل شيء بما نطمح لتحقيقه. لقد استطاعت السيدة لبكي إنقاذ واحد من أصل آلف أضاعتهم الحروب والكوارث ومازلت أعتقد أن من صفق لفلم المخرجة الكبيرة ومن شاهد وأعجب لو فعل ما فعلته السيدة نادين ولو حتى لمصلحة متبادلة لتغير مستقبل الكثير من هؤلاء الأطفال وأكاد أجزم أنه بعد جيل أو جيلين سيكون لدينا مصفقين فاعلين ومشاهدين فاعلين يبحثون عن المواهب والقدرات الضائعة ليسقوها الماء ويعيدون لها الحياة بعد أن قتلتها الحرب وأبادتها شراهتنا نحن البشر التي لا تنتهي ولن تنتهي ولكن يمكن أن يتم سحب بعض الناجين من بين أظافرها القاسية وانتشالهم من نار جحيمها المريع.

مصدر الصورة

اقرأ أيضًا:

leave a comment

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Compare Listings

عنوان السعر الحالة اكتب المساحة غرض غرف نوم الحمامات
%d مدونون معجبون بهذه: