
ذكرى محذوفة
لا أعلم إن كان يجذبكم التحدّث في هذه المواضيع
ولكنني أودُ وبشدة مناقشة هذه الأفكار معكم
على الأقل لتسليط الضوء على تلك الفجوة الخطيرة…
بطلة قصتي فتاة تُدعى ** أمل **
لم تتجاوز السابعة عشر من عمرها، إلّا أنها كانت مدركة لكل ما تفعله، وتتصرف بوعي تام لما يدور من حولها..
نظراً للمجتمع الشرقي الذي سلب منها طفولتها وكتب عليها أن تكبر وتنمو قبل عمرها
أن تنمو مكبلة اليدين والفكر سوياً…
نظراً لقلّة الوعي الجنسيّ ،نتيجة ضعف طرح هكذا مواضيع في مجتمعنا، تحت مسمى عيب وحرام، مُنافي لعاداتنا،
ونظراً لمفهوم الحبّ المختلّ الذي يتداوله معظمنا مسبقاً، وفي حاضرنا هذا وكأنهُ لا يوجد حب عفيف، صادق .
نظراً لطغيان نظرية تغلب الذكورية على الأنوثة بمحتواها
ولبقعة الضوء الضئيلة التي تتركها السعادة والطمأنينة المبعوثة من منبع الحب داخلها.
فقد نشأت على فكر فلانة أحبتْ أحدهم، إذاً فقد ارتكبت الخطيئة وحق عليها العقاب والقمع، فالمحبة جُرمٌ في نظرهم
نظراً إلى تعدد مفاهيم التربية وجبروتها في معظم الأحيان
فتاة مسالمة تربّت في عنق أسرةٍ جاهلة، منطوية تهاب العادات والتقاليد…
أسرةٍ قاسية شرقية ،دمرت طفولة *أمل* وبراءتها .. أسرة تُدمر وتُجرم الأحلام والحب، تتبع المجتمع بما فيه من تقاليد ومفاهيم بغض النظر إن كانت صحيحة أم خاطئة..
أسرة قد منَعت طفلتها **أمل** من التعليم..
حرمَتها من أبسط حقوقها ،وقيّدت على قلبها كثيراً..
ربما ظنً من هذه الأسرة، مثلها مثل الكثير من الأسر غيرها ،تعتقد بأن التعليم عبارة عن قراءة وكتابة فقط ، ونيل وظيفة في نهاية المسيرة، ولكن في نهاية القصة سوف ندرك حق اليقين أن التعليم هو أسمى من ذلك
التعليم يعني الوعي والقدرة على التفريق بين الصواب والخطأ، بين الحلال والحرام، بين المكر والود
وسنرى أهمية تعليم الفتيات وإعطائهم الثقة، لمنع وقوعهن ضحايا الاستغلال والتحرش والانخداع …
في ذلك اليوم المشؤوم، من تلك السنة العابرة…
بينما كانت *أمل* ذاهبة لشراء لوازماً منزلية..
تعرّفت على شابٍّ يعمل في دُكان صغير في الحيّ المجاور لحيّها تماماً..
عاملها ذلك الشاب بلطفٍ ومودة، عاملها بما تستحقّ من احترام، نعم على عكس ما كان والديها يعاملانها به..
بعد عدّة مشاويرٍ متتالية، إلى ذلك الدّكان، ومقابلة ذلك المخلوق اللطيف الذي يعاملها بطريقة مختلفة عما تربت عليه الطفلة *أمل*.هذا ما حدث بينهما:
خليل : أراكِ في كلّ مرّة تأتين فيها إلى هنا حزينة، مهمومة .
إن كانَ بإمكاني المساعدة فأرجو منكِ الإفصاح عن سرّ هذا الحزن الكبير..
أمل : عمَّ أتحدّث يا تُرى ، أ أتحدّث عن الغلّ والكبت الذي يحتلُّ أوردتي وسواعدي عندما أرى من هم في سني ذاهبون إلى مدارسهم، يحملون تلك الكتب الجميلة .
أم أتكلّم عن شعور الطفل بارتدائه للبدلة المدرسية، الشعور الذي أصبح حلماً أحلمُ الشعور به ولو لمرّة !!!!!
خليل : لا بأس هدّئي من روعك..
أمل : وكيفَ لي فعل ذلك إذ أنَّ قلبي يُخرَق وكبدي يتقرح وكلامي ممزّق.
خليل : أتمنى لو بإمكاني مساعدتك..
أن تكوني مثقفة، وتأكدي الثقافة ليست متعلقة بالدراسة والتعليم فقط.
أتستطيعين القراءة؟
أمل : نعم لقد تعلّمت ذلك في المرحلة الابتدائية..
خليل : إذاً يمكنك القدوم إلى منزلي متى شئتِ وقراءة ما تحبين، فلديَّ مكتبة كبيرة تحوي كماً هائلً من الكتب.
و والدايَ في الوقت الراهن مسافراً خارج البلاد.
أعيشُ مع أخي غيث في المنزل ،لكنه أغلب الاوقات غير موجود إذ هو متفرّغ تماماً لدراسته في المدينة.
بينما أنا أدرس وأعمل هنا بنفس الوقت منسقاً وقتي بين تعليمي ومسؤولياتي..
أمل : أعتذر لا يمكنني القدوم .
أي أنت شاب وحيد في المنزل و………
خليل : لا تقلقي.. ثقي بي فلا يدورُ في رأسي حالياً سوى مساعدتك في تكوين ذاتك، وتطوير نفسك.
•احتارت أمل في أمرها، بين أخبار أهلها بذلك ،و بين أن تصبح فتاة مثقفة..
طبعاً احتمال اخبارها لأهلها عن الموضوع كان ضئيلاً جداً لانعدام الثقة والحوار فيما بينهم.
وبين أن تثق في ذلك الشاب المدعو خالد، وحوله الكثير من إشارات الاستفهام ،وعدم وجود الكثير ممن يمكنهم مساعدتها وبين المنزل والمسؤوليات التي قد فُرِضت على عاتقها..
لكن .. نظراً لمستواها الدراسي المنخفض ولقلّة وعيها وثقافتها، ورغبة منها باستكشاف ما حُرمت منه في صغرها ومنعها من ممارسة طفولتها.
اختارت أمل الذهاب إلى منزل خالد….
بحجة أنها ذاهبة إلى إحدى جاراتها كما تخبر أمها دائماً.
كانت كل يومين تذهب إلى منزل خليل وتقرأ رواية أو أقل منها في الأسبوع..
قرأت عن السلام.. عن الحرب.. عن الحضارات وعن الحب أيضاً..
منها المفهمة ومنها ما هو غامض مُبهم..
مر على ذلك ثلاث أشهر ..
ثلاث أشهر من تفاصيل خليل… من اهتمامه بها وحبه الكبير..
ثلاث أشهر من الثقة الكبيرة نحوه..
من الأمل بالتثقف و تعويض شعور النقص في شخصيتها وذاتها.
في الشهر الرابع من السنة التالية..
جرّهما الحب إلى ما كانَ متوقّع، وسقطت إلى الهاوية!!!
ظنت بأن الثقافة سوف تعزز ثقتها بنفسها، وتفتح لها باب التحرر وتفعل ما تريده ..
تثقفت ثقافةً سلبية، وكانت هذه كلها وأكثر الأسباب تعذيباً لها فهي كانت تطلب الثقافة وزيادة الوعي مع إثبات الذات ، لكنها تلقت الثقافة الخاطئة واختارت الشخص الخطأ ،وهذا ما يضرب خناجر اللوم في النفس تماماً فهي أرادت القراءة والنضج ،لكي تخرج من دائرتها المغلقة، ومن سجن أهلها.
لكن جرّاء الغلطة هذه..
أمضت شهرين من العذاب وتأنيب الضمير، مع المرض الشديد وتدهور حالتها الصحية …
شهرين وقلبها مدمّر تماماً، كونها لم تسمع أي خبر عن خليل ،وبهذا تأكدت من خبث نية المدعو خليل منذ البداية.
أمضت **أمل** شهرين وقد تغلغل السمّ في دمها..
وحملت ياسمينةً في رحمها، لتزيد معاناتها وانكسارها
وكبرت شهرين، بعدها ماذا تتصرف ،وما عساها أن تفعل في أمرها؟؟؟؟؟؟
وجهها يشحب….. وبطنها يكبر..
أبويها تائهين بها، لا يعلمان بتلك الفعلة بشكلٍ نهائي..
وهي في حالة يرثى لها…..
كفتاةٍ عارية النفس، مدمرة ،فاقدة ضميرٍ تبحث عن الثقافة بمفهومٍ خاطئ ، بمكان خاطئ ، عن طريق شخص خاطئ.
أجهضت الجنين، مع كمٍ كبيرٍ من الخيبة والانكسار .
أجهضت وقلبها مملوءٌ خناجر وسكاكين..
مضت عمرها تتذكر ذلك المشهد، وفقدانها للأقحوانة.
فقدت طفل، فقدت روح
فقدَ ذلك المجتمع الظالم الجاهل طفل بريء.
منعته أن يكبر ويصبح أباً مسؤولاً ،مربٍّ لأجيال وأجيال..
لكن هذه هي الغلطة المسعورة ، الغلطة التي تترك الكثير من الندبات في الروح والفكر ، غلطة يبقى أثرُها مدى العمر.
هذا هو الكفر على حدّه في مجتمعنا اليتيم…
مجتمعنا المتخفي بستار العلم والإيمان..
مجتمعنا متعدد العقائد والطوائف
مجتمعنا الكابت ،الحارق والمستغل..
ولا نعلم إن كانَ هذا الخطأ من أمل ؟؟؟
أو من خليل ؟؟؟
أو من تربية الأسرة ؟؟؟
أو من المعتقدات والتقاليد البالية ؟؟؟
أو من المجتمع ؟؟؟
أو من الناس الغافلة وتفكيرها بالاستغلالِ ؟؟
أو من لغة التواصل والتعقيد والتخلف على مر الأجيال..
أمل إلى اليوم وهي عانس، في دارها…
وقد قاربت على تخطي سن الأربعين..
عمّا يمكنها التحدُّث الآن:
هل عن تلك الطفولة اليتيمة، وذلك القمع الذي نشأت به؟
أم عن ذلك الوحش الذي لعب دور الحمل اللطيف الوديع؟؟؟
عن ماذا يمكنها أن تتحدث …
فمازالت ذكرى تلك اليرقة التي تكونت في جوفها حية في مُخيلتها، لا تفارق ذاكرتها يوماً ….
لا زالت ذكرى في أرجاء رحمها محفوفة..
لكنها من أيامها و واقعها محذوفة …
النهاية
عمي محامي مارس مهنة المحاماة سنين طويلة ، وفي ذات الليالي أخذ يقص علينا بعض القصص والأحداث التي صادفها بسنين عمله، قائلاً :
أغلب قصص استغلال الفتيات والتحرش والاغتصاب
تكون فيها الضحية فتاة لم تتلقى الثقة والدعم من أهلها ، وأخذت تبحث عن ذلك النقص في المكان الخطأ وعبر أناس خطأ ، ظنًّ منها أنها تطور نفسها وتثبت ذاتها …..
فلا توجد فتاة تلقتْ الثقة من أبيها ، وخذلتها مستحيل..
الفتاة التي تعيش في بيئة متفهمة متحاورة فيما بينها نادراً ما تقع ضحية لقصص الاستغلال المأساوية تلك …
أيها الآباء أعطوا أبنائكم الثقة، وخاصة الفتيات ، احرصوا على تعليمهن، فالتعليم درعٌ و حصنٌ لهن،
و ذلك منعاً لوقوعهن ضحايا للوحوش البشرية…….
Fatime Abbas